سورة الأنفال - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


قلت: {فأن لله}: مبتدأ حُذف خبره، أي: فكون خمسة لله ثابت، أو خبر، أي: فالواجب كون خمسه لله.
يقول الحق جل جلاله: {واعلموا أنما غَنِمتُم من شيء} مما أخذتموه من الكفار؛ قهراً بالقتال، لا الذي هربوا عنه بلا قتال، فكله للإمام فَيء، يأخذ حاجته ويصرف باقيه في مصالح المسلمين، ولا الذي طرحه العدو خوف الغرق، فلواجده، بلا تخميس، وكذا ما أخذه من كان ببلاد العرب على وجه التلصيص، فأما ما أخذه بالقتال: فللَّه {خُمُسَه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل}؛ الجمهور على أن ذكر الله للتعظيم كقوله: {واللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرضُوه} [التوبة: 62]، وإنما المراد: قسم الخمس على الخمسة الباقية.
واختلف العلماء في الخمسة، فقال مالك: الرأي للإمام، يلحقه ببيت الفَيء، ويعطي من ذلك البيت لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رآه، كما يعطي منه اليتامى والمساكين، وغيرهم، وإنما ذكر من ذكر على جهة التنبيه عليهم، لأنهم من أهم ما يدفع إليهم. وقال الشافعي: يعطي للخمسة المعطوفة على (الله)، ولا يجعل لله سهماً مختصاً، وإنما ذكر ابتداء تعظيماً، لأن الكل ملكه، وسهم الرسول يأخذه الإمام، يصرفه في المصالح، فيعطي للأربعة المعطوفة على الرسول، ويفضل أهل الحاجة. قال مالك: لا يجب التعميم، فله أن يعطي الأحوج، وإن حرم غيره، ومبني الخلاف: هل اللام لبيان المصرف أو للاستحقاق، كما في آية الزكاة.
وقال أبو حنيفة: على ثلاثة أسهم، لليتامى والمساكين وابن السبيل، قال: وسقط الرسول وذوو القربى بوفاته عليه الصلاة والسلام. وقال أبو العالية: يقسم على ستةٍ، أخذاً بظاهر الآية، ويصرف سهم الله إلى الكعبة، وسهم الرسول في مصالح المسلمين، وسهم ذوي القربى لأهل البيت الذين لا تحل لهم الزكاة، ثم يعطى سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل.
قال البيضاوي: وذوو القربى: بنو هاشم، وبنو المطلب، لِمَا رُوي: أنه صلى الله عليه وسلم قسم سهم ذوي القربى عليهما، فقال عثمان وجبير بن مطعم: هؤُلاء إِخْوانك بَنُو هِاشِمٍ لا ننكر فَضْلَهُمْ لمَكَانِك الذي جَعَلَك اللَّهُ مِنْهُمْ، أرأيت إخواننا من بَني المُطَّلِب، أعْطَيْتَهُمْ وحَرَمْتَنَا، وإنَّما نَحنُ وَهُمْ بمَنْزِلَةٍ وَاحِدةٍ؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونَا في جَاهِلِيَّةٍ ولا إٍسْلاَم» وشَبَّكّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. وقيل: بنو هاشم وحدهم. قلت: وهو مشهور مذهب مالك وقيل: جميع قريش. اهـ.
ثم قال تعالى: {إنْ كنتم آمنتم بالله}، أي: إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء، فسلموه إليه، واقنعوا بالأخماس الأربعة، {وما} وكذا إن كنتم آمنتم بما {أنزلنا على عبدنا} محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن، في شأن الأنفال، ومن النصر والملائكة، {يوم الفرقان}؛ يوم بدر، فإنه فرّق فيه بين الحق والباطل، {يوم التقى الجمعان}؛ المسلمون والكفار، {والله على كل شيء قدير}؛ فيقدر على نصر القليل على الكثير، بالإمداد بالملائكة، وبلا إمداد، ولكن حكمته اقتضت وجود الأسباب والوسائط، والله حكيم عليم.
الإشارة: واعلموا أنما غنمتم من شيء من العلوم اللدنية، والمواهب القدسية، والأسرار الربانية، بعد مجاهدة العلائق والعوائق، حتى صار دين القلب كله لله، فللَّه خمسه؛ فناء، وللرسول؛ بقاءً، ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل؛ تعظيماً وآداباً. يعني: أن العلم بالله يقتضي بهذه الوظائف: الفناء في الله، بالغيبة عما سواه، وشهود الداعي الأعظم، وهو رسول الله، والأدب مع عباد الله، ليتحقق الأدب مع الله. ثم تعالى أعلم بأسرار كتابه.


قلت: {إذ}: بدل من (يوم الفرقان)، أو ظرف لالْتقى، أو لاذكر، محذوفة، والعدوة مثلث العين: شاطئ الوادي و{الدنيا} أي: القربى، نعت له، و{القصوى}: تأنيث الأقصى، وكان قياسه: قلب الواو ياء، كالدنيا والعليا؛ تفرقة بين الاسم والصفة، فجاء على الأصل، كالقَود، وسُمع فيه: القصيا على الأصل، وهو شاذ. و{الركب}: مبتدأ، و{أسفل}: ظرف خبره.
يقول الحق جل جلاله: واذكروا {إذ أنتم بالعُدْوَة الدنيا} أي؛ بعدوة الوادي القريبة من المدينة، {وهم} أي: كفار قريش، {بالعُدْوة القصوى} أي: البعيدة منها، {والركبُ} أي: العير التي قصدتكم، {أسفل منكم} أي: في مكان أسفل منكم، يعني الساحل، ثم جمع الله بينكم على غير ميعاد، {ولو تواعدتُم} لهذا الجمع، أنتم وهم للقتال، ثم علمتم حالكم وحالهم {لاختلفتم في الميعاد}؛ هيبة منهم؛ لكثرتهم وقلتكم، لتتحققوا أن ما اتفق لكم من الفتح والظفر ليس إلا صنيعاً من الله تعالى خارقاً للعادة، فتزدادوا إيماناً وشكراً، {ولكن} الله جمع بينكم من غير ميعاد؛ {ليقضي اللَّهُ أمراً كان مفعولا}؛ سابقاً في الأزل، وهو نصر أوليائه وقهراً أعدائه في ذلك اليوم، لا يختلف عنه ساعة. رضي الله عنه {ليَهلِكَ من هلك عن بينة ويحيى مَنْ حَيَّ عن بينة}، أي: قدَّر ذلك الأمر العجيب ليموت من يموت عن بينة عاينها، ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها، لئلا يكون له حجة ومعذرة، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة، فكل من عاينها ولم يؤمن قامت الحجة عليه. أو ليهلك بالكفر من هلك عن بينة وحجة قائمة عليه، ويحيى بالإيمان من حي به عن بينة من ربه، {وإنَّ الله لسميع عليمٌ} بكفر من كفر وإيمان من أمن، فيجازي كلاًّ على فعله. ولعل الجمع بين صفة السمع والعلم؛ لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد.
واذكر أيضاً {إذْ يُريكَهُمُ الله في منامك قليلاً}، كان صلى الله عليه وسلم قد رأى الكفار في نومه قليلاً، فأخبر بذلك أصحابه، فقويت نفوسهم وتجرؤوا على قتالهم، وكانوا قليلاً في المعنى، {ولو أراكَهُمْ كثيراً} في الحس {لفشلْتُمْ} لجبنتم، {ولتنازعتم في الأمر}؛ في أمر القتال، وتفرقت آراؤكم، {ولكنَّ الله سلَّم} أي: أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع؛ {إنه عليمٌ بذات الصدور} أي: يعلم ما يكون فيها من الخواطر وما يغير أحوالها.
{و} اذكر أيضاً {إذْ يُريكموهم} أي: يريكم الله الكفار، {إذ التقيتم في أعينكم قليلاً}، حتى قال ابن مسعود لمن إلى جنبه: أتراهم سبعين؟ فقال: أراهم مائة، تثبتاً وتصديقاً لرؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم، {ويُقلِّلكم في أعينهم}، حتى قال أبو جهل: إن محمداً وأصحابه أَكَلَهُ جزور بفتح الهمزة والكاف جمع آكل، أي: قدر ما يكفيهم جذور في أكلهم.
قال البيضاوي: قللهم في أعينهم قبل التحام القتال؛ ليجترئوا عليهم ولا يستعدوا لهم، ثم كثّرهم حين رأوهم مثليهم؛ لتفجأهم الكثرة فتبهتهم وتكسر قلوبهم، وهذا من عظائم آيات الله في تلك الوقعة، فإن البصر، وإن كان قد يرى الكثير قليلاً والقليل كثيراً، لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحد، وإنما يتصور ذلك بصد الله الأبصارَ عن إبصار بعضٍ، مع التساوي في المرئي. اهـ.
وإنما فعل ذلك في الجهتين؛ {ليقضيَ الله أمراً كان مفعولاً} أي: ليظهر الله أمراً كان سبق به القضاء والقدر، فكان مفعولاً في سابق العلم، لا محيد عنه، ومن شأن الحكمة إظهار الأسباب والعلل، كما أن من شأن القدرة إبراز ما سبق في الأزل، وإنما كرره؛ لاختلاف الفعل المعلل به؛ لأن الأول علة لالتقائهم من غير ميعاد، وهنا لتقليلهم في أعين الكفرة، أو للتنبيه على أن المطلوب من العبد هو النظر إلى سابق القدر، ليخف عليه ما يبرز منه من الشدائد والأهوال، ولذلك قال أثره: {وإلى الله تُرجع الأمور}، وإذا كانت الأمور كلها راجعة إلى الله تعالى فلا يسع العبد إلا الرضا والتسليم لكل ما يبرز منها، فكل ما يبرز من عند الحبيب حبيب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الأرواح والأسرار بالعُدوة القريبة من بحر الحقائق، ليس بينها وبينه إلا إظهار أدب العبودية، وهو الذي بين بحر الحقيقة والشريعة، والأنفس وسائر القواطع بالعدوة القصوى منه، والقلب، الذي هو الركب المنازع فيه، بينهما، أسفل من الروح، وفوق مقام النفس، الروح تريد أن تجذبه إليها ليسكن الحضرة، والنفس وجنودها تريد أن تميله إليها ليسكن وطن الغفلة معها، والحرب بينهما سجال تارة ترد عليه الواردات الإلهية، التي هي جند الروح، فتنزل عليه بغتة من غير ميعاد، فتجذبه إلى الحضرة.
وتارة ترد عليه الخواطر والهواجس الردية فتحطه إلى أرض الحظوظ بغتة، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً في سابق علمه، فإذا أراد الله عناية عبد قلّل عنه مدد الأغيار، حتى يراها كل شيء، وقواه بمدد الأنوار حتى يغيب عنه كُل شيء فتذهب عنه ظلمة الأغيار وإذا أراد الله خذلان عبد قطع عنه مدد الأنوار، وقوى عليه مدد الأغيار، حتى ينحط إلى الدرك الأسفل من النار، والعياذ بالله من سوء القضاء والقدر، وإليه الإشارة بقوله: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} الآية. والله تعالى أعلم.


قلت: {بطراً ورئاء}: مصدران في موضع الحال، أي: بطرين ومراءين، أو مفعول لأجله، و{ويصُدُّون}: عطف على {بطراً}؛ على الوجهين، أي: صادين، أو للصد.
يقول الحق جل جلاله: {يا أيها آمنوا إذا لَقيتُم فئةً}؛ جماعة من الكفار عند الحرب {فاثبتُوا} للقائهم، ولا تفروا، {واذكروا الله} في تلك الحال سراً داعين له، مستظهرين بذكره، متوجهين لنصره، معتمدين على حوله وقوته، غير ذاهلين عنه بهجوم الأحوال وشدائد الأهوال؛ إذ لا يذكر الله تعالى في ذلك الحال إلا الأبطال من الرجال {لعلكم تفلحون} بالظفر وعظيم النوال. قال البيضاوي: وفيه تنبيه على أن العبد ينبغي ألا يشغله شيء عن ذكر الله، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد ويقبل عليه بشراشره، فارغ البال، واثقاً بأن لطفه لا ينفعك عنه في جميع الأحوال. اهـ.
{وأطيعوا الله ورسوله} فيما يأمركم به وينهاكم عنه؛ فإن الطاعة مفتاح الخيرات، {ولا تنازعوا} باختلاف الآراء كما فعلتم في شأن الأنفال، {فتفشلوا} وتجبنوا، {وتذهب ريحُكم} أي: ريح نصركم بانقطاع دولتكم، شبه النصر والدولة بهبوب الريح؛ من حيث إنها تمشي على مرادها، لا يقدر أحد أن يردها، وقيل: المراد بها الريح حقيقة، فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثه الله من ناحية المنصور تذهب إلى ناحية المخذول. وفي الحديث: «نُصِرتُ بالصِّبَا، وأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبُورِ». {واصبروا إن الله مع الصابرين} بالمعونة والكلاءة والنصر.
{ولا تكونُوا كالذين خرجُوا من ديارهم}، يعني: أهل مكة، خرجوا {بطراً} أي: فخراً وشَرّاً {ورئاء الناس}؛ ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة، وذلك أنهم لما بلغوا الجحفة أتاهم رسولُ أبي سفيان، يقول لهم: ارجعوا فقد سلمت عيركم، فقال أبو جهل: لا والله حتى نأتي بدراً، ونشرب بها الخمور، وتغني علينا القيان، ونطعم بها من حضرنا من العرب، فتسمع بنا سائر العرب، فتهابُنا، فوافوها، ولكن سُقوا بها كأس المنايا، وناحت عليهم النوائح؛ مما نزل بهم من البلايا، فنهى الله المؤمنين أن يكون أمثالهم بطرين مراءين، وأمرهم أن يكونوا أهل تقوى وإخلاص، لأن النهي عن الشيء امرٌ بضده. {ويصدّون عن سبيل الله} أي: خرجوا ليصدوا الناس عن طريق الله، باتباع طريقهم، {والله بما يعملون محيطٌ} فيجازيهم عليه.
الإشارة: خاطب الله المتوجهين إليه، السائرين إلى حضرته، وأمرهم بالثبوت ودوام السير، وبالصبر ولزوم الذكر عند ملاقاة القواطع والشواغب، وكل ما يصدهم عن طريق الحضرة، وذلك بالغيبة عنه والاشتغال بالله عنه، وعدم الإصغاء إلى خوضه وتكديره، فمن صبر ظفر، ومن دام على السير وصل، وأمرهم ايضاً بطاعة الله ورسوله، ومن يدلهم على الوصول إليه، ممن هو خليفة عنه في أرضه، وأمرهم بعدم المنازعة والملاججة، فإن التنازع يُوجب تفرق القلوب والأبدان، ويوجب الفشل والوهن، ويذهب بريح النصر والإعزاز، كما أن الوفاق يوجب النصر ودوام العز.
ونهاهم عن التشبه بأهل الخوض والتكدير، ممن أولع بالطعن والتنكير، بل يكونون على خلافهم مخلصين في أعمالهم وأحوالهم، دالين على الله، داعين إلى طريق الله، يُحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، وهذه صفة أهل الله. نفعنا الله بذكرهم. آمين.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12